هل سيستطيع البطريرك الراعي رأب الصدع مع المملكة السعودية؟
كأنه لم يكن يكفي اللبنانيين ما حلّ بهم من أزمات مالية وحياتية وإجتماعية خلال السنتين الفائتتين، حتى أتتهم المشكلة المستجدة مع المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج لتزيد في سوء طينهم بلّة.
ففي حين يبدو أن المسؤولين والسياسيين المعنيين قد أُسْقِط من يدهم بإيجاد مخارج ترضي الأطراف المعنية في المدى المنظور توجهت الأنظار إلى الصرح البطريركي الماروني علّه يستطيع رأب الصدع المستجد ومعالجة ذيول الزلزال غير المسبوق الذي ضرب علاقات لبنان ببعض أشقائه العرب، وبخاصة بعد تسرّب أنباء عن أن البطريرك الراعي لم يقطع إتصالاته على خط الرياض التي سحبت “فِيَش” الإتصالات مع معظم أركان النظام في لبنان. فهل سينجح سيد بكركي في فتح ألابواب الموصدة؟
الثابت أن البطريرك الكاردينال بشارة الراعي قد سجّل سلسلة من الصدمات في تحركاته التي تميزت بجرأتها منذ توليه السدّة البطريركية في 15 آذار 2011 حاملاً الرقم السابع والسبعون في التراتبية البطريركية، ففي حين كرّس أسلافه مبدأ “أن البطريرك يُزار ولا يزور”، باشر بُعيد عبوره عتبة بكركي بزيارات رعوية للأبرشيات التابعة لسلطته في الداخل وبلاد الإغتراب غير مسبوقة في تعدادها بالنسبة لجميع البطاركة الذين سبقوه. ولم يكتف بذلك بل كسر تابوهات كانت تشكّل هواجس للآخرين:
ففي مطلع العام 2013 شدّ الرحال إلى دمشق بالرغم من مضي سنتين على إندلاع الحرب على سورية من أجل المشاركة بحفل تنصيب بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر يازجي وهي المسبوقة بزيارة واحدة فقط لبطريرك ماروني إلى العاصمة السورية، عندما زار البطريرك الراحل انطون عريضة عاصمة الأمويين خلال فترة الانتداب، قبل استقلال لبنان عن فرنسا في العام 1943. وبرغم المواقف الحادة التي كانت تعتمدها الدول الغربية من الرئيس السوري بشار الأسد تفوّه الراعي بكلام لافت رغم الجدل الواسع الذي أحدثته الزيارة في لبنان فقال:” نصلّي من أجل السلام في البلاد التي يمزقها نزاع مستمر منذ اكثر من 22 شهرا، داعيا الى تحقيق الاصلاحات بالحوار لا فرضها من الخارج”. داعياً إلى وقف إذكاء الحرب والدمار والقتل من اي جهة اتى، من اجل الاصلاحات. وأن الاصلاحات لا تفرض فرضا من الخارج، بل تنبع من الداخل حسب حاجات كل بلد، ولا احد ادرى بشؤون البيت مثل اهله”. مبدياً قناعته بأن سوريا ضحية حروب إرهابية مفروضة عليها.ثم أتبعها بزيارة ثانية إلى مدينة طرطوس لتنصيب أحد المطارنة في العام 2015. مستذكراً أن شفيع الطائفة القديس مارون عاش في بلدة براد شمال حلب وتوفي فيها.
ولم يكد فريق من اللبنانيين يلتقط أنفاسه بعد زيارة بطريرك ابرز طائفة في هذا الشرق إلى سوريا حتى صُدم فريق آخر بأن البطريرك نفسه قرّر زيارة رعاياه في الأراضي الفلسطينية المحتلة في ربيع العام 2014 وهي الزيارة الثانية إلى تلك الديار لبطريرك ماروني ولكنها لم تكن تحت الإحتلال الاسرائيلي إذ قام بها البطريرك بولس المعوشي إلى القدس الشرقية يوم كانت المدينة تحت السيادة الأردنية في العام 1964 لاستقبال البابا بولس السادس، من دون أن يعبر حاجزا اسرائيليا واحدا من الأراضي الأردنية الى العاصمة الفلسطينية. البعض وصف تلك الزيارة بانها سابقة خطيرة برغم سعي البطريرك لنزع الطابع السياسي عنها، لمصلحة تغليب الطابع الديني الرعوي واعتبارها مجرد زيارة للأراضي المقدسة. لكن العديد من الأوساط إعتبرت أن مكمن الخطورة، هو في الشكل والمضمون والتوقيت. في حين أن سلفه البطريرك نصرالله صفير لم يقبل أن يرافق البابا يوحنا بولس الثاني في رحلته الى القدس بسبب “وجود وضع داخلي نراعيه”. وكذلك كان يحصل مع زيارات لباباوات سابقين.
أما الزيارة التاريخية فكانت إلى المملكة العربية السعودية في خريف العام 2017 لإنها غير مسبوقة وهي تلبية لدعوة كريمة من العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، والأولى التي يقوم بها رجل دين بارز غير مسلم للمملكة.
وعلم موقع “أحوال” من مصادر ذات مصداقية عالية أن ولي العهد الامير محمد بن سلمان وبعد لقائين مع البطريرك الراعي أعطاه رقم هاتفه الشخصي وقال له :”أنا أعتبرك مثل والدي”. وعشية تلك اللقاءات أكد الزائر المميز على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات في المنطقة وعدم دخول لبنان في سياسة المحاور.فيما قال وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان إن الزيارة تُبرز أسلوب بلاده في التعايش السلمي والانفتاح على كل الفئات الدينية للشعوب العربية.
وفي الأول من هذا الشهر ترأس البطريرك الراعي الإجتماع الدوري للمطارنة الذين دعوا للإسراع في ترميم العلاقات مع دول الخليج، وإزالة أسبابها، فيما نُقل عن السفير السعودي في لبنان وليد البخاري إن البطريرك الراعي يمثّل صوت كل اللبنانيين الذين يريدون بناء دولة وأن الأزمة الأخيرة لن تؤثّر على العلاقات المتينة التي نُسجت بين الرياض وبكركي.
وفي حين تُبدي بعض المراجع الروحية المتابعة عن قلق بالغ حيال تحوّل البلد إلى مربعات متقاتلة سياسياً وطائفياً تشدّد بكركي على أن الازمة بين لبنان والرياض يجب أن تُعالج بهدوء تام وعدم تركيب سيناريوهات خيالية حولها. في حين تعتبر مصادر متابعة أنه طالما هناك تطمينات سعودية لبكركي على الاستمرار في العلاقة، فذلك يفتح الباب امام سيدها لكي يحقق خرقاً ملموساً قد لا يُترجم بحلول جذرية فورية نتيجة المواقف السياسية المتضاربة على الساحة اللبنانية ولكن بالتأكيد أن حركته ستلطّف الأجواء بين عاصمتين شقيقتين وفق ميثاق الجامعة العربية، وستساهم جهوده في إبقاء “حبل السرّة” قائماً بين بيروت والرياض مهما تفاقمت الأمور لتكون بمثابة ماء باردة على جمر ملتهب!